الدُورُ والإنسان في رَحِمِ الطبيعة
إبراهيم الصلحي
قد لا تُسعفني الكلمات أحياناً حين أرى ما تُبهِرُني رؤيته، عِلماً بأنَّ للكلمات أَهلٌ ورُوَّاد، تَلينُ لهم قناتها طائعة مختارة، وأنا أصارعها وكثيراً ما صَرَعَتني، ورحم الله امرءاً عَرِفَ قدر نَفسه.
ومع ذلك، أحاول تعبيراً عمَّا يجيش بنفسي، ويُثير فيها كوامنَ شجنٍ خفيٍّ يربطُ ما بين وجداني وإبداع فردٍ آخر، أَجده مُمثَّلاً في عمله. وهذا ما لقيته صبيحة يوم جمعةٍ فضيلة، حينُ دُعِيت إلى دار فنانٍ في أطراف مدينة بحري، حيث جمعتني وإيَّاهم دارٌ رَحبَة ازدانت جنباتها بزرعٍ أخضر مُزهر، ورُدهات وبهو فُرشت أرضُه رملاً، نقَّح عليها ماء بارد فبَرد مع نسائم ضحى منعشة للروح. وقد طابَ الأُنس، وما دار فيه من تبادل آراء ومشورةٍ براحةِ بال.
وعلى جدران البهو وملحقاته في الدار بياضٌ بالرمل دون طلاء يُعكِّر صَفوه. عليها عُلِّقت أعمالُ عددٍ من فنانين شباب ومخضرمين من بني وطني رَاعَني منها الكثير، ومن بين الكلّ ظهرت جليَّة أعمال صاحب الدار، الرسام والمصور الضوئي ومصمم الغرافيك الفنان/ عصام عبد الحفيظ؛ مبدع لم يُسعدني الحظّ من قبل بالتعرف على إنتاجه الفنيّ، وسَعدت حين لقيته.
وعصام، كما تَبين من عمله، فنانٌ مُبدع مُدرك لأبعادِ ومتطلبات صُنع الصورة بالألوان، واللون، كما نعلم، لا يبوح بأسراره إلا لمن خَبِرَ المكان، وتفهَّم سابق عصره، وواكب أوانه، وبصدقٍ أَحبَّ الأرض والتراب والإنسان.
بهرتني قدرته الفائقة على التكوين، وتكييف الصورة، وموازنة عناصرها اللونية على المسند.
يغلبُ على ظاهر عمَله تشكيلٌ تجريديٌّ وشبه تجريديّ مُستخلص، استبعد من حوزته كل ما زادَ عن الحاجة في صنع اللوحة؛ بما أوصله في معالجته للتكوين الفنيّ، إلى مرحلة السهلِ الممتَنِع، وما أعظمها من مرتبةٍ عليا في مجال التشكيل الفنيّ.
أرى في عَمَله بصدقٍ وجهَ السودان الحديث، وطبيعة أرضِه وتراثهِ العريق، إذ يهتم الفنان/ عصام، كما يبدو جليَّاً في عمله، بالدُور وبالإنسان في رحمِ الطبيعة؛ بحيث يَلتَحم الكلُّ أُناساً ودوراً ونوافذ وساحات في وحدةٍ مترابطة، لا تفرقةَ فيها بين الأرض وما عليها، والسماء، وحدة كونية ديدنها اللون، وألوان عصام عجيبة طاعمة، تتداخل درجاتها ما بين باردٍ ودافئ، وما بين مضيءٍ وقَاتِم، في تناسقٍ وانسجامٍ تامٍّ يُوَحِّد ما بين الأضواء المتباينة.
أرى في عمله رياح الجنوب، وأعاصير الزوابع الترابية أيام قيظ الصيف في السودان، وما يَعقُبهُ من “همبريب” و”دعاش” وانبثاقِ النبتِ الأخضر ينشقُّ من أرضٍ بكر بلَّلَها المطر، وزرقة السماء حين يصفو الجو ويخلو السحر والغناء والطرب، والناسُ بالناسِ وإن اختَلَفت مشاربهم.
وعصام فنان غزيرُ الإنتاج، ثَرّه، مواصلٌ للعرض عن خبرةٍ ومعرفةٍ بأصول التشكيل، ودود، كريمٌ في سخاءِ من لا يَخشى الفقر، ولله درّه من مبدعٍ صادقٍ مُحبٍّ لأرضِه ووطنِه، وللإنسان حيث كان.

إبراهيم الصلحي
مدينة أكسفورد في 15/ 11/ 2000م
من أهمّ رواد الفن التشكيلي السوداني المعاصر/ مقيم ببريطانيا