شهادات – محمد عبد الرحمن

تقنياتُ إنتاجِ الدلاَلَة في أعمَال

عصام عبد الحفيظ - الفترة 1990 - 2005م

محمد عبد الرحمن

مرَّت تجربة الفنان عصام عبد الحفيظ في الفترة التي أعقبت إكماله لدراسته بكلية الفنون بعدة تحولات يمكن تقسيمها إلى مرحلتين أساسيتين بعد فترة التشكل التي استمرت طوال ثمانينات القرن العشرين، المرحلة الأولى هي التي عُني فيها بتطوير ونقد أساليب التعبير السائدة في التجربة التشكيلية في السودان، والتي اتجهت لاستنطاق العلامة التشكيلية من جهاتٍ ثلاث: دلالتها على محتوىً طبيعيّ (تمثيلي)، أو دلالتها على محتوىً ثقافيّ اجتماعي (رمزي)، أو على محتوىً إنشائيٍّ خالص (جمالي) –وهذا بحسب أنماط التعبير التي برزت في ساحة الممارسة التشكيلية في السنوات التي سبقت تكوين تجربة الفنان– وقد امتدت هذه الفترة من تسعينات القرن العشرين وحتى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية تقريباً. والمرحلة الثانية هي التي تمرُّ بها تجربة الفنان في الوقت الحاضر، والتي لا يمكن وصفها إلا بطريقةٍ لن تفيها حقّها ما لم تتضح ملامحها؛ وهذا ما يقتضي انتظار ما ستُسفِر عنه السنوات التالية في تجربة الفنان. في السطور التالية، سأحاول تقديم وصفٍ مختصرٍ للمرحلة الأولى والتي تُمثِّلها تمثيلاً جيداً الأعمال المطبوعة في كُتيِّب حمل اسم “زيت على قماش”، وصدر في طبعتين (جاءت ثانيهما في العام 2004م وتضمنت 34 عملاً زيتياً ملوناً و9 أعمال بالحبر الأسود). 

في أعمال عصام عبد الحفيظ تظهرُ ثلاثةُ أنواعٍ رئيسية من العلامات الشكلية؛ تنتمي أولها للعناصر التمثيلية، والثانية للعناصر الهندسية، والثالثة للعناصر الزخرفية. وبين هذه الأنواع توجد عدة تداخلات يصعب وصفها، وسأقصِر عملي هنا على الأنواع الثلاثة المذكورة، وفي جميع الحالات تخضع العلامات لعمليّات الحذف والإضافة والتعديل عن طريق الخطوط. وإذا كانت العناصر الواقعية تمثِّل الخبرة البصريَّة مع العالم الفعليّ والملموس، والعناصر الهندسية تُمثِّل التصورات العقلية للمكان المحض؛ فإن العناصر الزخرفية تُمثِّل مركب الخبرة البصرية للعالمين الواقعي (الملموس) والذهني المحض. فالزخارف تتخذ دلالتها ضمنَ التراثِ البصريّ لدى مجموعةٍ اجتماعيةٍ مُعيَّنة في فترة أو فترات معينة، ومن هنا فهي ترتبط بكيانٍ ملموس هو المجتمع المحدد (أو التشكيلة الاجتماعية المحددة)، ومن ناحية أخرى تجد الزخارف دلالتها داخل نسقِ المعنى الخاص بهذه الثقافة، والذي هو عالمٌ عقليٌّ خالص. من هنا أيضاً يتوسط المكون الزخرفي النظام العلامي في أعمال عصام ليربط بين طرفيه: العلامات التمثيلية والهندسية. ولا يستخدم عصام الأشكال الهندسية في صورتها الخالصة، لكنه يعرضها بوصفها بناءاً تحتياً للعلامتين، الزخرفية والتمثيلية، وهذا ما يتطلب تحليلاً سيميولوجياً لطرائق ترابط العلامات واقتصاد إنتاج الدلالة التشكيلية عنده. ولنأخذ كمثال تلك العلامة التمثيلية التي تحتفي بها أعمال عصام في المرحلة الأولى، أعني الوجه البشري. 

في النمط الأول من استخدام العلامة، يتم إسقاط العناصر الهندسية على الأشكال الواقعية، فتتخذ ملامح الوجه البشري عندئذٍ سمةً هندسيةً حين يُنتج شكل الشفاه اعتماداً على تناظر الأقواس، أما الأنف فيُنتَج بواسطة شكل المثلث، وتُنتج تقابلات الأقواس الشكل البيضاوي الذي يتكرَّر في مواضع مختلقة: الفم والعيون أو نصفي الوجه، وفي كل هذه الأحوال تكون سمة التناظر هي أساس تنظيم الفضاء الداخلي للعلامة التمثيلية. ويكون العنصر المُكَمِّل هو الإيقاع الخطي (درجة تواتر وتكرار الأقواس في المساحة المُخصَّصة للوجه بوصفه علامة تمثيلية)؛ ففي الوجه تكون الأقواس الستة الموزعة على العينين والشفتين، بواقع اثنين لكلٍّ، هي كلية العنصر الهندسي الذي يحمل عبء تمثيل الوجه، بينما يضطلع تواتر الخط المستقيم بإنتاج شكلٍ مثلث في موضع الأنف، محتلاً مركز الشكل البيضاوي أو الدائري للوجه، فيكتسب الخط المستقيم تميّزه مُحَاطاً بالأقواس الستة التي تتوزَّعُ بدورها في شكل مثلثٍ افتراضي قاعدته لأعلى (الخط الرابط بين العينين) ورأسه لأسفل (الفم)، هكذا يُعاد إنتاج المثلث بإشراك المشاهد في رسم خطوط افتراضية تمتدّ بين رؤوس المثلث، الذي يعود الشكل البيضاوي مرة أخرى ليحيط به ويغلقه من الخارج، راسماً محيط الوجه. تبدو هذه القراءة الهندسية وكأنها ترصد موجة التعاقب بين الشكلين البيضاوي، والتي تُنتجه من داخل الوجه (مكوناته) إلى الخارج (محيطه)، أو العكس، وتُسهم جميعها في توجيه قراءة التنظيم الشكلي للعلامة المأخوذة بوصفها عُنصراً تمثيلياً. تتأكد مكانة العلامة التمثيلية عندما ننتقل لنمط علامي آخر في أعمال الفنان، أكثر إفصاحاً عن ما تم وصفه هنا، وأعنى العلامة الزخرفية، وهو هنا ينتقل من مستوى إنتاج العلامة إلى الشفرات (ترابطات العلامات)، إذ تتحكم في السياق الشكلي الذي ينتج عنها (المعتمد على علاقات التعاقب)، فتتابع المثلثات أو شكل المعين في مسار أُفقي أو رأسي يستدعي سياق الزخارف التي نراها في الخزف والفخار النوبي القديم، وبعض الفنون الشعبية المحلية لثقافات الحزام السوداني الممتد من الشرق إلى الغرب جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية. تتضح العناية بهندسة الفضاء عند تحليل كيفية توزيع العناصر المذكورة (الهندسية والتمثيلية والزخرفية) على السطح الكلي للعمل. ففي معظم أعمال الفنان، يتم تقسيم مجمل سطح اللوحة إلى مساحات مستقلة عن بعضها، لتتوزع العناصر في كلٍّ منها على أساسٍ مختلف عن توزيعها في المساحات الأخرى. ولكن التقسيم الهندسي في هذا المستوى (الفضاء الكليّ) يعتمد اعتماداً كاملاً على الألوان، وليس على العناصر الشكليَّة (الخطوط والعلامات)؛ حيث تُوزَّعُ الألوان على مساحات مربعة ومستطيلة بدرجات يتحقق فيها تباين بين لونين في الغالب، بينما تتناغم الدرجات الأخرى. 

يبدو أن أعمال الفنان عصام تسعى لطرح أسئلة على تقاليد توظيف العناصر التشكيلية، وعلى التقسيم المألوف إلى تمثيل تجريد، وهو ما قد قُبل لدى كثير من الفنانين التشكيليين السودانيين. وهذا الدور تؤديه البنية الهندسية القائمة على توسّط العنصر الزخرفي للعلامات الأيقونية (التمثيلية) والعلامات الهندسية (البصرية الخالصة). ولكن هذه الطريقة ليست هي الأسلوب الوحيد الذي يُسائِل به عصام الممارسة التشكيلية على مستوى السطح ذو البعدين، فهناك تنوعات مختلفة لهذا الأسلوب تطرح هذه الأسئلة عن طريق محو الفارق بين التقليدين، مُوضِّحاً أن الفرق بينهما إنما هو فرقٌ في طريقة تنظيم العلامات وطريقة تفسيرها مِن قِبَلِ من يُشَاهد اللوحة. فاللوحة التي تُعتَبر تجريديةً يمكن أن تُقرأ بطريقة تمثيلية تماماً إذا ما نَسَبَ المُشَاهد لعلامةٍ ما دلالةً واقعية، ومن ثم وَجَّهَ قراءته وِجهةً تمثيلية. 

في إحدى اللوحات التي تغطيها بكاملها تدرجات اللونين الأصفر والبني، مع مساحات صغيرة خضراء وحمراء (منتجة في العام 1997) موزعة على مساحات مستطيلة، والتي لا تحتوي أية عناصر واقعية بل هي محضُ علاقات لونيَّة وتناغم لتنوعات شكلٍ هندسيّ واحد هو المستطيل (وبالتالي فإن مكوناتها تعتبر تشكيلية خالصة)؛ تنقلب اللوحة بمجرد إعطاء علاقات الترتيب دوراً تفسيرياً، لتتخذ بُعدَاً تمثيليَّاً خالصاً. فالمستطيلات الصغيرة التي تتخذ اللون البني أو الأخضر الموضوعة داخل مستطيلات درجات الأصفر، بمجرد أن تؤخذ على أنها نوافذ وأبواب في واجهات غُرف، فإن المشهد بكامله يُقرأ على أنه منظر لمجموعة من المساكن المترادفة، وهو مشهد مألوف للأحياء السكنية ذات المباني الطينية في السودان. وعندئذٍ تُفسر تدرجات الأصفر نحو البني على أنها درجات الضوء والظل في الجوانب المختلفة للغرف والأسوار التي تنتصب في مواجهة المشاهد التي تسدّ الفضاء بكامله، كأنما الرائي ينظر من فوقٍ لمساحةٍ تقع أسفل مستوى نظره. هكذا يتموضع المُشَاهِدُ خارج المشهد بكامله. وبذلك تتشكَّل وجهة نظر الفنان تجاه هذا النوع من التفسير؛ فهو يراه كفيلاً بإقصاء المُشَاهِد عن المشاركة في صياغة، العمل إذ يُغلِق أمامه احتمالات التفسير ويموضعه خارج سيرورة إنتاج الدلالة. وفي هذا العمل نفسه، يستخدم عصام المباني بوصفها تحويلاً للتربة وألوان الأرض، مُستعيداً ثنائية الطبيعي والثقافي، الواقعي والرمزي. فالأسوار والمباني الطينية التي تعكس المعمار الشعبي لوسط السودان، ليست إلا صياغة الثقافة لما هو طبيعي (تراب الأرض) الذي هو مادة كونية تُوجد أينما وجد الإنسان، بغضّ النظر عن ثقافته. 

في أعماله الأخرى، يظهر اهتمامٌ واضحٌ بالإنسان، فرداً أو عضواً في جماعة. ومرةً أخرى تعكس هذه الثنائية انشغالاً بالفضاء الجمعي، وبدور الثقافة التي تكفل للفرد أن يكون عضواً في الجماعة، فبذات القدر الذي تحتلُّ فيه الوجوه مقدمة لوحاته، يبرز عصام أيضاً كتلَ المجموعات البشرية التي يتحوَّل فيها الفرد إلى جزءٍ صغير في وحدةٍ عضويةٍ كبيرة، إلى ثيمة محدودة داخل بناءٍ زخرفيٍّ هائل. 

مع ذلك، لا تضع أعمال عصام الجزء مقابل الكل، أو الفرد مقابل الجماعة، لكنها تُعَالِجُ كلَّاً منهما على أنه عنصر ضروري لحالةٍ من التوازن. فمعظم لوحات هذه المرحلة تعتمد تصميماً تقابلياً، فتجعل قسماً منها يسكنه الفراغ مقابل قسم (أو أقسام أخرى) تشغله الأشكال التمثيلية أو العناصر الزخرفية، مع مراعاة أن يُشَكِّل الإيقاع الخيط الناظم لتكرارات العناصر وعلاقات التقابل والتناغم بالطريقة التي سبق وصفها. 

تحاول أعمال عصام، في هذه المرحلة، السيطرة على القلق تجاه التعدّد والتنوع الذي تواجه به المادة التشكيلية الفنان، وتُعتَبرُ تقنيات التوسّط هي الحل الذي تقترحه لتحقيق حالة التوازن وحال التعارضات التي تطرحها تجربه الحياة. 

محمد عبد الرحمن الخرطوم، السودان، أكتوبر 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top