غِيابُ الذاكِرَة/ حُضُورُ المُخَيِّلة:
أعمال عصام عبد الحفيظ في الفترة من 1989- 2018م
محمد عبد الرحمن حسن
كيف يمكن استعادة ملامح زمنٍ غاب، أو تَسَرَّب، من الذاكرة؟ تلك مهمة عصية لا تُنجزها إلا مخيلة فنان يمكنه جعل موضوعات العالم وأحداثه مرئيَّة، ومُدرَكة، حتى في حالِ غيابها. في معرضه هذا، يستعيد عصام عبد الحفيظ سيرة زمنٍ جماعيّ، وزمنٍ شخصيّ، تسردهما مرئياته التي لا تُمثِّل العالم كما يُرى، بل كما يُعرف. مستهدفة إبراز خبرة مُعايَشة الحياة بواقعها وتوقعاتها، التي تحقَّقت والتي أُحبطت، في فترةٍ تُمثِّل منعطفاً حرجاً في تاريخ السودان وتجربته الشخصية، جاءت الأعمال التي تُوثِّق لها الصور المنشورة في هذا الكتاب. ففي حقبة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، تشَكَّلَ العالم كلّه بطريقةٍ جديدة؛ اقتصاديَّاً وسياسيَّاً وثقافيَّاً، فتفكَّكَت مراكزه ولم يكتسب نظاماً جديداً حتى اليوم، فيما يراه بعض المفكرين المعاصرين انفراطاً للنظام العالميّ الذي تَشَكَّل منذ بداية العصر الحديث. ورافقت كل ذلك تحولات كبيرة في السياقين العربي والإفريقي أيضاً، انتهت، في بداية هذه الألفية، بإعادة تشكيل وطننا نفسه في دولتين سودانيَّتين.
لم تمر تلك التحولات بدون أن توازيها تحولات واضحة في معظم مجالات الفن والأدب في السودان، وكان عصام أحد الذين ساهموا بطريقةٍ مباشرة في منحِ تلك الفترة شكلها ومضمونها في مجال التعبير البصريّ. فإلى جانب رمزٍ أساسيّ، مثل حسَّان علي أحمد، وقلة من فنانين آخرين ثابروا على الإنتاج والعرض، يقف عصام، بتنوّع مجالات انشغاله من رسمٍ وتلوينٍ وتصوير، مُمَثِّلاً لفترةٍ مهمة نقلت الممارسة التشكيلية في السودان من مفهوم الفن، باعتباره أسلوباً تعبيرياً له طبيعة جمالية، إلى أن يكون بحثاً معرفيَّاً ذو طبيعةٍ بصرية. فلم يعد هناك أسلوب محدَّد، أو انتماءٌ مدرسيّ، يُقَولَب ضمنه إنتاج الفنان، بل هناك سلسلة أعمال تَتَخلَّق فيها الموضوعات التي يبحث فيها، بطريقةٍ مختلفة، وبخبرةٍ جديدة، في كلّ مرة. ومن بين التشكيليين القليلين الذين مرّوا بالثمانينات والتسعينيات، ورسخوا كممارسين للتشكيل، يظهر لدى عصام انشغالٌ عميقٌ بطرقِ إدراكِ وتمثيلِ الأمكنة، من حيثُ هي فضاءات حراك لمجتمعات متنوعة ومختلفة، متعددة الثقافات والخبرات والتواريخ، متساكنة ومتعايشة في تلك الفضاءات. وفي موازاة هذا الانشغال بالتعدُّد والتنوع، تتعدَّد المراحل التي مرَّت بها تجربته التي يوثق لها هذا الكتاب، وهذا ما تدلّ عليه تنوعات أعماله، فتُعبِّرُ عن ثراء تجاربه الأسلوبية التي تعيد بناء ما يليها، فتعاود الظهور فيها دون أن تغلب عليها، أو تلغي حضور ما هو جديد فيها.
تأتي المساهمات النظرية المختلفة التي يتضمنها هذا الكتاب، تأويلاً وتوصيفاً لتجربة الفنان، بأقلام عدد من كبار الكتاب ممن عايشوا تجربته، وخبروا الفترة التي تغطيها أعماله. ويُعبِّر تنوع مجالات انشغالاتهم النظرية والأدبية، عن تضامن زوايا نظرهم في إلقاء أشعةٍ من ضوءٍ على مرئياته، لجعل ما غاب يوماً عن الذاكرة حاضراً الآن أمام الأنظار.