شهادات – كمال الجزولي

تَوقِيعُ مُتَلَقٍّ فِي دَفْتَرِ الغَاليري

كمال الجزولي

يتَّخذ التَّشكيل لدى عصام عبد الحفيظ طريقين، الرَّسم والتَّلوين من جهة، والتَّصوير الفوتوغرافي من جهة أخرى، حيث تراوح أعماله، بهذين الطريقين، أساساً، بين اللوحة، والبوستر، والفوتوغرافيا الصَّحفيَّة. ورغم أن لكلِّ طريق، بالطبع، أدواته وأساليبه المختلفة، إلا أن ثمَّة تشابهاً لا يخفى على النَّاظر المدقِّق في المنهجين المتَّبعين في هذين الطريقين. 

فبالنِّسبة للرَّسم والتَّلوين، يتجلى هذا التَّشابه في الميل الغالب لدى عصام إلى التَّعبير التَّجريدي القائم، بوجه عام، كما لدى سائر التَّجريديِّين، في الإعلاء من شأن الخيال باتِّجاه تخليص المرئيَّات الماثلة أو المحتملة من حقائقها الواقعيَّة، وإعادة صياغتها في شكل قطعٍ إيقاعيةٍ بصريَّة مختلفة، بعد إفراغها، كما في الأحلام، من جلِّ دلالاتها المباشرة، وإكسابها خصائص قصديَّة أخرى نابعة، أوَّلاً، من ميل عصام الفكريِّ المسبق، وثانياً من الحالة العقلية والعاطفيَّة التي تميِّز مزاجه أوان تصدِّيه لعمليَّة الخلق الفني. بعبارة أخرى يُخضع عصام رؤيته الإبداعيَّة لخياله بما يتجاوز الواقع الماثل إلى واقع آخر متخيَّل، يختزل فيه الأفكار إلى مساحات لونيَّة، ويهمل الحدود الخارجيَّة للخطوط في الغالب. ويتبدَّى ذلك، ضمن ما يتبدَّى، في نوعيَّة اللون، ودرجته، وحجم وشكل المساحة التي يغطيها، واستقامة وجهته أو انحنائها، وغلظتها أو رقَّتها، وحرارتها أو برودتها، وحدَّتها أو ليونتها، وما إلى ذلك من أحاسيس تنتقل عدواها إلى المتلقي من الإيحاء بملمس اللوحة، وأسلوبيَّة ضرب الفرشاة على سطحها، وطريقة توزيع الألوان بين المساحات المختلفة، وما إلى ذلك. 

من جهة أخرى يتجلى هذا التَّشابه، على مستوى الصُّورة الفوتوغرافيَّة، في كون عصاماً، بوجه عام، لا ينحو إلى التقاط المشهد على ما هو عليه في حقيقته الواقعيَّة، إنَّما على النَّحو الذي يبدو عليه في متخيَّله، بما يعكس ميله الفكري، وهيئته العقليَّة والعاطفيَّة، ووضعيَّته المزاجيَّة لحظة الطلق الإبداعي، مستخدماً، لذلك الغرض، اختيار زاوية الالتقاط، وضبط درجتي الضَّوء والعتمة، وتوسيع أو تضييق فتحة العدسة، وما إلى ذلك من تقنيَّات، سواء كان المشهد تكويناً بشريَّاً، أو أيَّ موضوع مادِّيٍّ آخر. 

أمَّا بوجه خاص، فإن أعمال عصام غالباً ما تتَّسم بسمات أفريقيَّة سودانيَّة. فلئن كانت تسهل رؤية تلك السِّمات في اللعب على انكسارات الضوء والظلِّ في صوره الفوتوغرافيَّة، لا سيَّما تلك التي تمثِّل التَّكوينات البشريَّة موضوعاتها، كالبورتريهات التي يتعامل معها كموضوعات مستقلة يقول عبرها ما يريد، فإن ملاحظة تلك السِّمات لا تصعب في لوحاته، من حيث الانطباع الذي يتركه في وجدان المتلقي تواتر ألوان بعينها، كدرجات الأسود والرَّمادي والأحمر، وتداخل رموزيَّات محدَّدة فيها، بمستويات مختلفة من الوضوح والخفاء، كالحراب، والقباب، والمآذن، والأهلة، والأشكال الهندسيَّة، كالدَّوائر، والمربَّعات، والمثلثات، ومتوازيات الأضلاع، وما إليها، فضلاً عن الملامح الزِّنجيَّة الصَّريحة. وبالطبع فإن ورود هذه الأشكال يتفاوت من لوحة لأخرى. 

بعبارة مختصرة، فإن عصاماً ليس معنيَّاً بالكشف عن حقيقة الأشياء، بل بالكشف عن الحقيقة الفنِّيَّة للأشياء. وفي هذا يكمن الفرق بين الإبداع والفلسفة، رغم أن وراء كل إبداع فلسفة ما، بالضَّرورة. 

وبعد، لا يصعب على الزَّائر لغاليري عصام أن يفطن، من أوَّل وهلة، إلى أنه بإزاء تشكيلي ومصوِّر محترف، مِمَّا يشكِّل قيمة مضافة دون شك. فقد اتَّخذ هذا الفنَّ مهنة لقرابة الأربعين سنة حتَّى الآن، منذ أوَّل تخرَّجه، في مطالع الثَّمانينات، من كليَّة الفنون الجَّميلة بالمعهد الفنِّي بالخرطوم “جامعة السُّودان لاحقاً”، حيث تتلمذ على أشهر الأساتذة الملوِّنين الذين كان أكثرهم تأثيراً عليه، في ما بعد، إبراهيم الصَّلحي وحسين شريف، ثمَّ بقي، عمراً بأكمله، يشقُّ لنفسه طريقاً مائزاً، ويحيا عاشقاً متبتِّلاً يهب جلَّ وقته للفُرَش، والألوان، والحواسيب، والكاميرات، والطابعات، والمحامل الخشبيَّة، فضلاً عن ذخيرته من الكتب في شتَّى صنوف المعرفة. فعصام فنان مثقَّف لم يكتف بما تعلم، في ستوديوهات الكليَّة، من أسس الرَّسم والتَّلوين، وتاريخهما، وسائر العلوم الأخرى ذات الصِّلة بهما، بل ظلَّ يراكم المزيد من المهارات بالتَّجريب والاطلاع، كما وأنه لم ينغلق في إطار محدود من التَّلقي، وإنَّما انفتح، عن طريق معارضه الفرديَّة، ومشاركاته في المعارض الجَّماعيَّة، بالذَات، على فضاءات عربيَّة وأفريقيَّة أكثر اتِّساعاً، مِمَّا أكسبه دربة عالية قلَّ أن تجد لها نظيراً بين أقرانه. 

كمال الجزولي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top