عصام عبد الحفيظ: الفنُّ كمشروعِ حيَاة
فتحي محمد عثمان
بعد منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، بنحو ثلاث سنوات، التحقنا بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية، والتي كانت حينها جزءاً من معهد الكليات التكنولوجية (جامعة السودان حالياً). كُنَّا مجموعةً من الشباب والشابات في حدود العشرين، أو ما دونها، من أعمارهم، جئنا من مختلف أنحاء السودان، تجمعُ بيننا الرغبة في دراسة الفنون دونَ سائر العلوم الأخرى التي كان متاحاً لنا أن نلتحق بكليَّاتها. بينما كان العدد الغالب مَنَّا، في صيف ١٩٧٨م، يجهلُ أين تقع كلية الفنون، كان عصام أحمد عبد الحفيظ من القِلَّة التي أُتيحَ لها ليس فقط معرفة أين تقع الكلية، بحكم نشأته ودراسته في الخرطوم عبر كل المراحل، بل وحظي بمشاهدة معارض التخرج لعدة مرات، وتعرَّفَ على بعضِ طُلاَّبها وخريجيها، بينما كان حظُّنا، نحنُ القادمين من أرياف السودان ومدنه البعيدة، ليس أكثر من معرفةٍ سماعيةٍ باهتة بهذه المؤسسة، عبر أساتذة مادة الفنون في المدارس الثانوية. ورغم أن الكلية في تلك السنة كانت قد تجاوزت أكثر من ثلاثةِ عقودٍ منذ إنشائها، إلا أن خيار الدراسة بها كان لا يزال محفوفاً بالمخاطر، أُسرياً واجتماعياً، مقارنةً بدراسة الطب، الهندسة، القانون والاقتصاد، التي تضمنُ وظائف لها بريقٌ اجتماعيّ ومردودٌ ماديٌّ مُقدَّر. كان اختيار دراسة الفنون يعني، بدرجةٍ ما، تمرداً على توقعات الأسرة وأحلامها.
جاء عصام إلى كلية الفنون، مثل غيره من الزملاء، برغبةٍ حقيقيةٍ في استكشاف عالم المؤسسة الوحيدة في البلاد التي تُعنى بتدريس وتدريب من يرغبون في التخصُّص بأحد فروع الفنون الجميلة أو التطبيقية، ومن ثم الالتحاق بوظيفةٍ في مجالٍ ذو صلة بالتخصص. ولا أحد، تقريباً، فَكَّر، في ذلك الزمان، في التفرغ كفنان تشكيليّ يكسب عيشه من إنتاجه الفنيّ فقط.
انخرط عصام في الدراسة والنشاطات الأخرى بطاقةٍ كبيرة وحيويَّة ملحوظة، وكان التصوير الفوتوغرافي اهتمامه الثاني بعد الرسم والواجبات الأكاديمية الأخرى في السنة الأولى، وحينما انضمَّ لقسم التصميم الإيضاحي في السنة الثانية، كان التصوير أداته في التعبير عن موضوعات المشاريع الإيضاحية بجانب الرسم والتلوين.
بعد التخرُّج عمل عصام كمصممٍ غرافيكيّ لبعض الوقت، غير أنه لم يتوقف عن التصوير والرسم، بينما كان التلوين في مركز اهتمامه على الدوام. وبرغم الانشغال بوسائل كسب العيش في سودان أواخر الثمانينيات وما تلاها، إلا أنه كان أقرب في كمّ ونوع إنتاجه إلى الفنان المتفرغ، ولعله أحد أبرز أبناء جيله من الفنانين الذين تواصل عملهم وإنتاجهم رغم كل المنغصات! واليوم يُعرف عصام في داخل وخارج السودان كمصورٍ مُحترف، ومُلوّنٍ ورسام، تتنوع أعماله عبر الموضوعات والخامات والأساليب، وفِي مركز هذا الإنتاج الضخم والمتّصل تبقى مسألتا الخلق الفني والتجديد هَمَّاً يشغل عصام عبد الحفيظ.
في حواري مع الأستاذ إبراهيم الصلحي والذي صدر في كتاب بعنوان “بيت الجاك”، تعرَّضتُ لمسألة كيف أننا، بسبب الوظيفة النظامية، حكومية كانت أم غيرها، فقدنا فنانين مرموقين كان في مقدورهم لو تفرّغوا للإنتاج الفني أن يُحقِّقوا الكثير، ولكن أضاعت الوظيفة فنَّهم برهقها وقلة مردودها الماديّ، ولَم ينجُ من هذا المصير المؤسف سوى قِلَّة قليلة استطاعت أن تُخلِق توازناً بين الأعباء اليومية للوظيفة والإنتاج الفنيّ الحر، ولكن تبقى حقيقة أن من تمكنوا من تحقيق مشروعهم الفني، كما أرادوا، هم أولئك القلة القليلة ممن تخلصوا تماماً من تبعات الوظيفة، وذهبوا بعيداً يبحثون عن حريَّتهم الكاملة كفنانين، كل همهم أن يُنتجوا أعمالاً جديدة تُضيف لخبراتهم وتُعبِّر عن أحلامهم ورؤاهم الفنية.
ما يُميِّز تجربة عصام عبد الحفيظ هو هذا التنوع الثرّ في التجارب التي عَمِلَ عليها، من الرسم بالحبر الأسود على طريقة الاسكتش، والتي استقلَّت بنفسها تدريجياً لتقوم مقام العمل الفني المُكتَمِل، إلى التلوين بمختلف الخامات والأساليب، ثم التصوير الذي واظب عليه كوسيلةٍ للتعبير على نفس درجة أهمية الخامات الأخرى. ورغم هذا التنوع والبحث المفتوح عن التجريب المستمر، لا تخلو أعمال عصام من سِمَات تُميِّزها، ولكنها لا تأسر إنتاجه في قالبٍ ضَيِّق. تبدو ملونات عصام وكأنها حالة تجريبٍ مستمر، يبدأ من نقطةٍ ما، ويتطور بالملاحظة الدقيقة لبناء علاقات الأشكال والألوان، وتنتهي إلى تكوينٍ يَتَخَلَّقُ تدريجياً وينمو بحريةٍ مثل كائنٍ عضويّ، لا تعيقه أفكار مسبقة ولا تلوي عنقه يدُ الإصرار على “أسلوبٍ مميز”، وهذا المسار في الخلق الفني لا يعني رفضاً كاملاً للتصور المسبق للعمل، بل يجعل ذلك التصور نقطةً للانطلاق، مفتوحة على احتمالات لا نهائية، تتماهى مع طبيعة العمل الفنيّ باعتباره اكتشافاً مُستَمِرَّاً لعلاقاتٍ جديدة، ومُتَجَدِّدة، بين عناصر العمل التشكيلي.
إن ما ينطبق على اللوحة، بمختلف خاماتها وموضوعاتها، ينطبقُ أيضاً على التخطيط بالحبر الأسود أو غيره من الخامات، كما ينطبق على التصوير، عبر عملية إعادة التقاط الكادر وتغيير زاوية النظر بما يسمَح برؤيةٍ جديدةٍ لعلاقات الضوء والظلّ وتركيب الألوان داخل إطار الصورة. القاعدة التي تحكم إنتاج العمل الفني هي نفسها مهما تغيرت المواد والأدوات والموضوعات، ويتوقف نجاح العمل على إبقاء الذهن منفَتحاً، والعينُ مفتوحةً على الملاحظة الدقيقة للتفاصيل المُتَوَلِّدة أثناء العمل على بناء اللوحة، والتحكم في كافة العناصر بحيث تتوازن وتتآلف مع بعضها. وهنا يجيء دور الحِرفة التي هي صنو الفن، كما قال أستاذنا إبراهيم الصلحي، وضرورتها ليكتمل العملُ الفنيّ في كلِّ جوانبه، وهذا القول على سبيل المجاز بالطبع، إذ أن العمل الفني بطبيعته غير قابل لاكتمال نهائي، رغم قول مايكل أنجلو لتمثال موسى: “… الآن أنطق!”.
يُمثِّل شكل الإنسان عنصراً أساسياً في تكوين أعمال عصام، سواء بشكلٍ مباشر وملموس، أو غير مباشر؛ فتتبينه مَخفِيَّاً داخل الخطوط والألوان والسطوح الخشنة، أحياناً، مثلما تُمثِّل بيوت “الجالوص” والأبواب القديمة والشبابيك عناصر غالبة على أعماله التي تقف على مسافةٍ من التجريد الكامل وأيضاً على نفس المسافة من الواقعية الكاملة التي يتعامل معها بأداةٍ أخرى هي التصوير الفوتوغرافي. وذاكرة عصام محتشدة بعناصر ذات مصادر متعددة، من قرى شمال السودان إلى حواري الخرطوم وأزقة أم درمان، الطبيعة الاستوائية لجنوب السودان، طبيعة شرق إفريقيا، مُمبسا، آثار سواكن، دمشق القديمة، ومدن أخرى. وتجدرُ الإشارة هنا إلى أن عصام قد خاضَ أيضاً تجربة أفلام الفيديو وحقَّق فيها فيلماً عن بعض مآلات انفصال جنوب السودان.
واظب عصام على عرض أعماله داخل وخارج السودان طوال العقود الثلاثة الماضية. أقام معارض فردية وشارك في أخرى جماعية في كلٍّ من الخرطوم، القاهرة، نيروبي، الشارقة، لندن، أسمرا، أديس أبابا، واشنطن، كمبالا، مراكش، مدريد، عمان، كونيا، برلين، جيبوتي، أمستردام، أروشا ودبي.
ظلّ عصام يمارس الرسم كنشاط يومي، تقريباً، منذ أن وعي بهذه الغواية، التي لا يفلتُ من أَسْرِها من يقع في حبائلها، وأظنه سيظل يرسم ما دامت يده قادرة على الإمساك بأداة للرسم. وهذا الشغف بالفن له شواهد كثيرة في أسلاف عصام من الرسامين والملونين السودانيين وغيرهم، أولئك الذين تفرّغوا له والذين أخذتهم دورات الحياة بعيداً عنه وظلت قلوبهم معلقة به، كما في حال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون شيرشل، الذي كان يأمل أن يجد الوقت الكافي لممارسة الرسم والتلوين ولو بعد موته!