شهادات – عصام درويش

أبعادٌ تَخطفُ العينَ إلى الخلف

عصام درويش

تَعَرَّفتُ إلى الفنان عصام عبد الحفيظ في منتصف عام 1989م، حين زارني مُستطلعاً صالةَ عشتار بقصد التعرُّف على الفنّ السوريّ، وبدوري تَعَرَّفتُ على فَنِّه، ومن خلاله على السودان الذي حمله معه أينما حلّ، بشخصه المثقف واللطيف والواثق بأعماله المتنوعة، على صعيد اللون والصورة والغرافيك. ومن يومها نَشَأَت صداقة نَمَت وتوطَّدت على مرِّ الأيام، كان الأهمُّ فيها ذلك الحوار المتّصل عن الفن في البلاد العربية، نقاط الالتقاء العربي، والتَميُّز القُطرِي.
واليوم، وبعد مرور تلك السنين، أسأل نفسي وأنا أشاهد لوحة عصام عبد الحفيظ، ما الذي يجعلها سودانية؟.
أُفكِّرُ بالألوان وبالتكوين، وبالغرافيك الذي يَربُط أجزاءها؛ أُفكِّر بالشخوص التي يَضعها، بالرموز الصغيرة التي تَلعَبُ دوراً مُهمَّاً في حَرْفِ لَوحته، من التّجريد إلى التذكِير اللَّطيف بالواقع. رغم أن لكلِّ عنصرٍ من عناصر العمل الفنيّ التي ذكرتُ أهميةً بالغةً في إظهار التفرّد الوطنيّ والشخصيّ، إلا أن اجتماع تلك العناصر، مع الروح الخفيّ للفنان الذي بواسطةِ نارِه تَغلِي وتَرتَبِط وتَتَماسك؛ هو الذي يجعلها على ما هي عليه من أصالةٍ ومن ارتباطٍ ظاهرٍ وباطنٍ بجغرافيَّتها، والدراما التاريخية لناس أرضها؛ حيث يجمعهم عصام عبد الحفيظ بخلطةٍ عجيبة، آخذاً ألوان أرض السودان، جامعاً، حبَّةً فحبة، ترابه بألوانِه العصيَّة على الحصر، مَارَّاً على جذوع أشجاره ونباتاته وطيوره وبيوتِه وسمائِه، ناسجاً تعبيريَّةً خاصةً تُؤالف بين أرضيةٍ تجريديةٍ بَحتَة، تُشَكِّل بُعداً يَخطف العين إلى الخلف، وبين الدراما الخاصة به؛ تَجمَعُ إشاراتٍ غرافيكيَّة على السطح، وناساً يغيبون ويظهرون في حوارٍ مع خلفيَّة اللوحة، يُشكِّلون عنصر الحوار الرئيسيّ مع المُشَاهِد، ويعطونَ لوحَته تلك القدرة على إنشاء أسئلةٍ، والقدرة، أيضاً، على إعطاء عددٍ لا يُحصَى من الإجابات.
لا يعمل عصام استناداً إلى دراسةٍ مُحَضَّرة، بل يذهب مباشرةً إلى ألوانه، ويبدأ بوضعها على اللوحة مستعيناً بمونولوجه الخاص، يدفع الألوان إلى السطح فتردّ عليه ويبدأ الحوار؛ حيث لا نعرف من يؤثر بالآخر، عصام بألوانه، أم هي؟ وبواسطة هذه الجدليَّة الأوليَّة، يبدأ هو بالتدرج بين إطلاق جماحها وصولاً إلى تحجيمها، مُنتَهياً إلى تنظميها وإعطائها شَكلَها الذي ستظهرُ به إلى الناس، وما الطزاجة التي نراها في أعماله إلا نتيجةً لذلك التدخُّل بحدوده الدنيا في تنظيم العمل، حيث تحتفظ أعماله بتلك الشحنة الأولية الأصيلة، فنرى، في الوقت نفسه، اندفاعات الدّماغ يُحَرِّك الأعصابَ واليدَ وبراءةَ الألوان في انطلاقها على السطح مُتَهَرِّبةً من سطوته.
ولكننا نستطيع مع ذلك أن نلمحَ وراء كلّ لوحةٍ لعصام عبد الحفيظ تلك المهارة والذكاء في توزيع الحارّ والبارد وفي تقسيم اللوحة؛ حيث تنتقل العينُ بسلاسةٍ بين المساحات، وفي صنع بؤرةٍ تُبَرِّر كل تلك الفراغات التجريديَّة، فنرى وكأنه وضع كل هذه الفراغات لتحتفي بذلك الجزء المشغول بمحبَّة، على شكلِ بؤرةٍ هي مركز اللوحة ومبرر وجودها.
من تلك السنة 1989، حيث تعرفت إلى الصديق عصام عبد الحفيظ إلى الآن، حدث تطوّرٌ كبيرٌ في عَمَلِه، وهو تطور يتصاعد باستمرار، وأشاهده أيضاً باستمرار في زياراته السنويَّة لسوريا، وهو مَبعَثُ سرورٍ لي يُضَاف إلى سرورٍ بزياراته، وتجربته تقف الآن بجدارة إلى تجارب أكثر الفنانين السودانيين جديَّة، مُسهِمَة في إعلاء شأن التشكيل السوداني الذي هو جزءٌ مهمٌّ في التشكيل العربي المعاصر.

عصام درويش
دمشق، سوريا في 3/ 12/ 2000م

فنان تشكيلي سوري وكاتب قصة، صاحب صالة عشتار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top