مراعاة الخطوط:
بعض الأفكار حول سلسلة الأبيض والأسود للفنان عصام عبد الحفيظ
زيغروم سلامانيان
تتشابك في سلسلة الأبيض والأسود للفنان التشكيلي عصام عبد الحفيظ، عند تتبع خطوطها، أفكارٌ تضم الانتقال والذاكرة والجمال. تغطي هذه السلسلة كامل الفترة التي تضم إبداعه الفني المتميز؛ حيث تُشَكِّل أعمال الأبيض والأسود التي أنتجها نظيراً لوسائله التي تجمع بين التلوين والتوثيق بالصورة الفوتوغرافية. تضم مجموعة الفنان بين ثناياها حوالي مائة عمل منفذ على الورق، وتظهر تبايناً في المحتوى والأسلوب، على الرغم من الحضور المتكرر للموضوعات. في أغلب الأحيان، تشهد خطوط شبكة هذه الأعمال ونسيجها على حركيَّة هذه الأعمال وأسلوبها التعبيريّ. تعكس هذه الأعمال، عند تتبع الأسلوب الذي يعمل على إنتاجها، شغفها بإسقاط الخطوط المستقيمة والتأكيد على طبيعتها التخيلية.
تُصور بعض هذه الأعمال مثل: رجال وأبواب (2015) أشكالاً وحدوداً خارجية تميل إلى الاقتصار وتتباين في بعض الأحيان مع كتل الحبر الأكثر وضوحاً. تحطم الخطوط المتناغمة، التي تسعى الأعمال إلى إنشائها عبر اتجاهات رأسية وأفقية، الأنساق المتوازية وتجعل الصورة واضحة للعيان. غالباً ما يُمكِن الرسم في الواجهة الوسطى، التي يتكوّن عليها العمل، الفنان من تصميم بنيات معقدة حول هذه الواجهة. تندمج في هذه العمل بنيات الأشكال المعمارية مع بعضها البعض؛ بينما تضيف مخططات الوجوه البشرية طبقة أخرى للعمل. في هذا العمل، فضلاً عن أعمال أخرى، تحمل الخلفية خطوطاً صاخبة وقصيرة ودقيقة تضفي على اللغة التصويرية حيوية متزايدة. تنساب الأبواب والوجوه البشرية، التي تتموضع في الوسط ويحتمل أن تكون لجنود، مع بعضها. تحدد الأشكال البشرية الخالية من العيون هؤلاء الجنود بوصفهم مرتكبين لـ (العنف؟) وشهوداً عليه في آن؛ ويعكسون بالتالي الشرط الإنساني. يبدو أن هذا العمل يعالج خيبة الأمل والحزن. يسعى هذا العمل إلى مواجهة المشاهِد بفكرتي رؤية الحقيقة وإدراكها. تُظهر البيوت والأبواب في الخلفية، التي يعمها الاضطراب، أفكاراً حول الوطن في الوقت الذي تشير فيه إلى طبيعته المتقلبة. في الوقت الذي لا تقوم فيه البنيات المؤلفة من الخطوط بكشف الوجوه البشرية، يعمل اتخاذ هذه البنيات لموقعها في الوسط على حجب هذه البنيات. تعمل حالة تجمد هذه البنيات على تغيير مظهرها الخارجي. تغري فكرة المشهد المضطرب المرء إلى التفكير حول تجربة النزوح.
يمكن أيضاً العثور على فكرة الذاكرة في مجموعة نساء وأبواب (2015)، حيث يتم استدعاء الجمال والأنوثة الرغبة والعشق. يبدأ فصل الأجزاء الثلاثة الأفقية في الأسفل عبر الجزء الأعلى من جسد الرجل الذي يتكون من خطوط خارجية بيديه الممدودتين مثل الصليب؛ بينما يغطي رأسه قناع من عنصر معماري ومعالم باب. يعارض المستوى التالي والجزء الأوسط بنيات الجزء الأسفل، التي تتكون من خطوط، عبر تقديم خطوط أفقية دقيقة تشكل زهرة فقدت تويجاتها المتبرعمة. بدلاً عن تخطيط رسوم لطبيعة صامتة، يبدو أن هذه المجموعة تركز على فكرة الإدراك الحسي للزمن. في الجزء الأعلى يعمل منظرٌ طبيعيٌ، يتخذ شكل الموجة، على إغلاق اللوحة. تعبر الموجات المحتشدة بالخطوط الرأسية القصيرة عن السرمدية والطبيعة القديمة قدماً لا ترقى إليه الذاكرة. في نفس الوقت، يبدو أن هذا الجزء يجسد بدقة خصوصية الجسد الأنثوي ومعالمه التجريدية. بالتشابه مع الأعمال الأخرى، يهيمن تجسيد رؤية الانتقال على المحتوى التصويري في هذه المجموعة. موسومةً بالمعالم السُريالية التي يتم انجازها عبر التكوينات المشوهة والأقنعة، تضع رسومات هذه المجموعة علاقة الرجل بالمرأة في نطاق يقع بين الذاكرة والحلم.
بالنسبة للفنان، يبدو أن التشويه الطفيف يُشكِّلُ أمراً حاسماً للتعامل مع مظهر الإنسان. تسمح أعمال عصام بأكثر من تأويل واحد؛ بسبب من عملية الخطوط الموضوعة بدقة والتي يعكر صفوها في بعض الأحيان الاستخدام العفوي للحبر. يعرض لنا الفنان إمكانيات ما يتسنى لنا أن نراه. تتميز أعمال عصام في الغالب بالاستهلال السلس للعناصر التصويرية الوسطى ومضاعفة حدودها الخارجية. يمكن العثور على ذلك، على وجه الخصوص، عندما يشتغل الفنان على مظهر الإنسان؛ كما هو الحال في مجموعة: ظلال (2015)، حيث تسعى إطارات تماثيل نصفية بشرية، مصطفة ومستنسخة، إلى الميل نحو التجريد. تظهر مقابلة الخطوط الطليقة وضربات القلم المحكمة وجوهاً متحولة تحمل إمكانية قراءاتها على أنها تمثل أنماطاً متباينة أو مراحل. ترتبط هذه المجموعة بالصراع الذي ينتبه إلى تحقيق الهوية. يبدو أن البورتريه الشخصي والنظرة المعكوسة للإنسان لا يعملان فقط على التقاط حالة الأسر داخل الذات، بل يعملان أيضاً على التقاط حالة أسر الإنسان داخل التاريخ والتجربة الإنسانية الراهنة؛ في نفس الوقت الذي يدعوان فيه إلى التفكير حول الشكل المستقبلي الذي يعقب ذلك. يشكل استمرار هذه الموضوعات والأشكال ملامح من مكونات سلسلة الأبيض والأسود؛ كما هو الحال في مجموعة: أهلي (2018). في هذه المجموعة، تتضاءل تدريجياً صفوف وخطوط الأشكال الإنسانية وهي في حالة وقوف أو مشي، وتبدو الأشكال في حالة أشبه بالتنويم المغنطيسي أو الشحوب؛ حيث تتلاشى الألوان أمام خلفية عميقة وسوداء تشكل منظوراً باهتاً يوحي بمجازات النزوح والإحباط. يختبئ تقريباً كل ما يُقصد منه لفت انتباه المشاهد داخل حشد يعوزه الوضوح، وداخل نقطة سوداء في الوسط محاطة بأشكال بيضاوية يمكن أن تمثل جسداً بشرياً آخر. تنطوي هذه الأجساد، التي تجثو على الأرض، على ذاتها، بالرغم من قدرتها على الفعل. تحتوي المجموعة على بعض الأشكال المنفذة عبر أسلوب أشبه بالاستهلال وتحدها معالم مؤطرة تتلاشى داخل الأنساق اللونية لبعضها البعض، في الوقت الذي يسود فيه الأسود. يُخلف الاتجاه المرتبط بالواجهة هالة من العدم والموات، ويمكن تحديد نزعة تميل إلى مساءلة المستقبل المرتقب للمجتمع.
يتسم التوازن بين مساحات الأسود والأبيض في أعمال عصام بالاختزال والبساطة؛ بينما تظهر الأعمال الأخرى مظهراً سطحياً مشوشاً يعمل على تلاشي هذه التمايزات الثنائية. تتميز بعض هذه الرسومات المشوبة بالتوتر بتعدد الطبقات؛ على الرغم من التركيز على الخطوط. على وجه الخصوص، يتم تنقيح تلك الأعمال التي تغلب عليها الظلال الرمادية عبر النقاط المطلية بصبغ كثيف من الأبيض والأكليريك الأسود. تُشيد الأشكال المعمارية الدائرية والمجردة ديناميات اللغة المجازية عند عصام، في الوقت الذي يتم فيه استبدال تبدد الرسم المنظوري عبر أساليب تأليف أمامية منفذة باستخدام عدة طبقات أفقية. في لحظة تشكيل الحركة على الورقة عبر أشكال هندسية وحيوية، يراكم عصام إشارات ضمنية متكررة ومجازية تتوسط ذاكرة معينة؛ كما يتأتى لي تأويل ذلك. تعمل الأجساد المنزوية والوجوه والخطوط الحرة على إظهار هذه الذاكرة في برهة زمنية متوهمة وفي المنظور المكاني لهذه البرهة.
تأسيساً على جماليات شكلانية مشابهة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، مثل حركة نوسوكا الطليعية في نيجيريا وتركيزها على السمات الشعرية واستخدام الخطوط، يمكن ربط أعمال عصام المعاصرة بحركات الحداثة التي خرجت من رحم المدارس الفنية في قارة إفريقيا. يدفع التوازن بين المواجهة المباشرة والتنفيذ الدقيق للعمل إلى التفكير بشكل أكثر تحديداً في التأثير الدائم الذي طرحته مدرسة الخرطوم على المشهد التشكيلي المحلي. نسبة لتطويره للغته الفنية الخاصة في الوقت الذي اهتم فيه بأشكال مشابهة، وإن كانت تبدو لموضوعات مغايرة، يسهل التفكير في أن أعمال عصام تأثرت بهذه الأفكار التي كانت تُدرس ويُشار إليها داخل أروقة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية الذائعة الصيت في الخرطوم. ربما توجد أكثر من طبقة في أعمال عصام تشكل ارتباطاً بأعمال إبراهيم الصلحي وأحمد شبرين وكمالا اسحق. يمكن العثور على صلة من الصلات في تطور الصورة عبر عنصر ينفتح على العديد من الاتجاهات حتى يصل الفنان إلى التكوين الذي يرضيه. علاوة على ذلك، يشكل الاستخدام المتكرر للوجوه البشرية التي تغطيها الأقنعة ويلفها الحزن والصدمة موضوعة شائعة في الفن السوداني المعاصر والفن السوداني الحديث. بالإشارة إلى أعمال فناني الجيل القديم مروراً بأعمال فناني الجيل المتوسط؛ مثل حسن موسى والطيب ضو البيت المقيم في نيروبي وانتهاء بالفنانين التشكيليين الذين ينتمون إلى الجيل الحديث؛ مثل الحسن المنتصر، يعثر المرء على طرائق متميزة في التعامل مع موضوعة العاطفة التي تتشارك التأمل الإنساني وتنهض بدراسة المجتمع. ناقلاً لهذه النزعة إلى المعاصر، يرسِّخ عصام لنصوص شعرية من الأعمال المصقولة بالذاكرة.