الرَسَّامُ الفَصِيح
عصام عبد الحفيظ رسام متعدد الغوايات، وأصواته تتعدَّدُ بتعدُّدِ أدواتِه، وأدواته تتمدَّدُ كأنها أعضاء أصيلة في جسده. وهو صانع تصاوير، يباشر الرسم على وعيٍ بالمنعطفات المهمة في تاريخ حركة الرسم. لا يكلّ ولا يملّ عن التجريب في شِعاب الخامات والأدوات. وعصام عبد الحفيظ لا يكتفي بالرسم والتلوين بالمائيات والزيت والأكريليك فحسب، لكنه يتوغَّل في أرض الفوتوغرافيا مُسلَّحاً ببصيرةِ الرسام، وكاميرته ترسم وتلوِّن.
ومن وراء شغل الفوتوغرافي، يبدو شاغلُ الرسام الفصيح الذي لا يستنكف عن اللجوء لوسيلةِ اللغة الأدبية التي تعالج الشأن العام السياسي في شجاعةٍ لا يستغني عنها من يُخاطرون بمقاربة أسئلة العمل العام في مجتمعٍ مثل مجتمعنا. فذلك أن عصام عبد الحفيظ ينتمي لجيلٍ من التشكيليين السودانيين الذين يعرفون أن معرض الرسم، إلى جانب كونه تظاهرةً فنية، فهو أيضاً عملٌ عامّ ذو عواقب سياسيَّة لا ينكرها أحد. وفي هذا المشهد، لا يتردَّد عصام لحظةً في استثمار البُعد السياسيّ للمعرض كوسيطِ تداولٍ تشكيليٍّ جماهيري. وقد دأب عصام عبد الحفيظ لسنوات طويلة، منذ 10 يناير 1982م، على إحياء الذكرى السنوية لشخصٍ عاديٍّ لا يذكره أحد، مواطن من غمار الشعب لا تعرفه وسائل الإعلام الرسمية، اسمه طه يوسف عبيد. وعصام يعرض سنويَّاً على شرف طه يوسف عبيد الذي خرج متظاهراً ضدَّ الغلاء في 10 يناير 1982، في عهد الديكتاتور السابق جعفر نميري، فأرداه طلقٌ ناريّ، ثم، عند تشييعه، أُصيب جثمانه بطلقٍ ناريٍّ مرةً ثانية(1).
هذا الشاب اليافع، المقتول بعد موته، يمثِّل، عند عصام عبد الحفيظ كمجازٍ (أليغوري) سياسيّ، بلاغته الجمالية تُلَخِّص الشقاء التراجيدي لشعبنا الصابر على المكاره. وسيرة طه يوسف عبيد تكسب لتصاوير عصام عبد الحفيظ ثقلها كمزيجٍ فريدٍ بين التجريد الفني والتعبير السياسي، على أثر رسامين من وزن بابلو بيكاسو في رائعته ” غيرنيكا” Guernica، وخوان ميرو في سلسله تصاويره التجريدية المُعنونة بالعبارة الغريبة: “أملُ المحكوم عليه بالإعدام”، سلفادزر بويغ آنتيش (L’Espoir du condamné à mort)، أو مجموعة تحايا روبرت موذرويل الشهيرة المشهورة بـ”تحية للجمهورية الإسبانية” (Elegy to the Spanish Republic).
وعناية عصام عبد الحفيظ بسيرة طه يوسف عبيد تُكسِب لعصام فرادته كرسَّامٍ فصيح، واعٍ بالثقل السياسي لعمل الفنان.